صوفيا.. متحف مفتوح لتاريخ البلقان
كتب: أيمن حامد
السير في وسط العاصمة البلغارية صوفيا، متعة كبيرة، إذ تبدو الشوارع متحفًا كبيرًا، يضم مشاهد متنوعة من الابداع والفن لتاريخ منطقة البلقان في أحلى تجلياته. ففي منطقة صغيرة نسبيا تتجمع عشرات الكنائس والمتاحف ودور الأوبرا والبالية والمسجد والكنيس اليهودي في انسجام حضاري فريد، لا يعكر صفوه سوى زحام السيارات، وضجيج “الترام” العتيق، الذي يخترق العاصمة بخطواته الوئيدة، التي تحكي عن تاريخ مدينة طويل من الازدهار والنكبات، يليق بمدينة يتجاوز عمرها العشرة قرون.
صوفيا المدينة، التي يسكنها قرابة 1.3 مليون شخص، منسجمة ومتصالحة مع سكانها، الذين يحيون في مساكن تنتمي لكل العصور، دون توترات اجتماعية أو سياسية. “البلوكات” السكنية الضخمة التي تحوي عشرات الشقق، تشبه “المساكن الشعبية” في مصر الستينات، تنتشر في مناطق وأحياء العاصمة بألوان زاهية، شاهدة على الماضي السوفيتي. لكن تطل بجوارها أبراج زجاجية براقة تشير إلى عصر الانفتاح والاستثمار “الأوروبي”.
حاضر صوفيا لا ينفصل عن ماضيها كثيرا. فالمدينة القديمة، التي يرجع تاريخ إنشائها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، واد منبسط رحيب تحتضنه الجبال من كل جانب، لاسيما جبل “فيتوشا”، الذي يضفي عليه البلغار صفة القداسة، والذي يحوي عددا كبيرا من الأديرة المنعزلة، التي ساهمت في الحفاظ على التراث المسيحي في وجه تركيا العثمانية، التي احتلت البلاد طيلة خمسة قرون.
وفي الجهة المقابلة، يقف جبل “ستارا بلانينا” يحاصر الوادي المترامي، الذي أنشأ فيه التراقيون المدينة في القرن الخامس قبل الميلاد، وأطلقوا عليها اسم “سيرديكا”. الاسم الذي ظل مقترنا بها طوال فترة الوجود الروماني، حتى أطلق البلغار عليها اسم “صوفيا” تيمنا باسم كنيستهم الرئيسية آنذاك “القديسة صوفيا” في عام 1376.
وتموج المدينة بتنوع معماري ملفت. البنايات مزيج من الحضارات والثقافات التي مرت من هنا، بداية من الوجود، الذي وجد في بلغاريا أهمية استراتيجية كبيرة كملتقى طرق بين الشمال والجنوب. ولايزال العثور على آثار رومانية في صوفيا وعدد من المدن البلغارية الأخرى في تزايد في السنوات الأخيرة، خصوصا مع حفريات إنشاء خطوط مترو الأنفاق في قلب المدينة.
وتشتهر صوفيا بعشرات الكنائس، أهمها كنيسة القديس “ألكسندر نيفسكي”، المعلم الأبرز للمدينة بقبابها الذهبية وبنائها الفريد، وهي إحدى أكبر الكاتدرائيات الأرثوذكسية في أوروبا، صممها المعماري الروسي الكسندر بوميرانتسيف، تخليدا لذكرى الجنود الروس، ضحايا حرب التحرير. وجرى افتتاحها عام 1912 وأطلق عليها اسم الأمير الروسي الكسندر نيفسكي، وتتسع لحوالي 5000 مصل. ويحتفل المسيحيون الذين يشكلون قرابة 86% من سكان البلاد بالأعياد الدينية في الكنيسة، التي تكتظ عادة بالمصلين والسائحين من مختلف الجنسيات. ويقدر عدد السياح الذين يزورون البلاد بنحو 10 ملايين سائح سنويا، يتركز معظمهم في الشواطئ البلغارية الساحرة على البحر الأسود لا سيما في مدينتي “فارنا” و”بورجاس”.
وفي الجوار، على بعد أمتار، من الكنيسة الكبيرة، يرتفع مبنى كنيسة القديسة صوفيا، التي يعود تاريخ تشييدها للقرن الخامس الميلادي، وكانت في الماضي الكنيسة الرئيسية في المدينة. وفي الجهة المقابلة فوق تلة صغيرة، ترتفع قباب الكنيسة الروسية “القديس نيكولاى”، وهي بدورها أحد أبرز معالم المدينة بقبابها الخمس المذهبة ورسومها الجدارية الرائعة.
وفي مركز المدينة المزدحم، تطل قبة المسجد الوحيد في المدينة، وهو مسجد “بانيا باشي”، وتعني بالتركية “الحمامات الكثيرة”، إذ جرى بنائه في عام 1576 فوق عدة برك للمياه، لاتزال أثارها حاضرة إلى اليوم في الجوار. وشيده المعماري التركي الشهير معمار سنان(1490- 1588)، الذي شيد أيضا مسجد السليمانية في اسطنبول. المسجد ينتمي للعمارة التركية التقليدية، حيث ترتفع قبة بقطر 15 مترا مطلية بالرصاص تجاورها مئذنة وحيدة، فضلا عن ثلاث قباب صغيرة. وتتسع ساحة المسجد لـ 500 شخص، فضلا عن فنائه الخارجي، الذي يكتظ بالمصلين في صلاة الجمعة من كل أسبوع، والتي يقرأ الامام فيها خطبته القصيرة باللغات العربية والتركية والبلغارية، ويمثل المسلمون 13% من تعداد سكان بلغاريا، الذي يتجاوز 7 ملايين شخص.
وبعبور شارع ماريا لويزا حيث المسجد والاتجاه يسارا نحو شارع اكزارا جوزيف يظهر ” كنيس صوفيا”، وهو المعبد اليهودي الوحيد في المدينة، وأحد أكبر معابد اليهود الشرقيين”السفارديم” في أوربا. وجرى تشييده في بداية القرن العشرين وافتتح للصلاة في عام 1909، ورغم أن ساحة الصلاة الفخمة تتسع لقرابة 1300 مصل، إلا أن الصلاة الأسبوعية يحضرها حوالي 60 شخصًا، بعد هجرة معظم يهود المدينة إلى إسرائيل.
وتحوي المدينة عددا كبيرا من المتاحف المتنوعة. وتنتصب في وسط المدينة دار الأوبرا الفخمة، التي تستضيف أعرق الفرق العالمية، ويجاورها مسرح “ايفان فيزوف” ببنائه الأنيق، فضلا عن عشرات من دور السينما التي تنتشر في الشوارع والمولات التجارية.
وتقطع المدينة عدة أنهار صغيرة من بينها نهر “اسكار” و”فلادياسكا”، فيما تشتهر صوفيا على نحو خاص بينابيع المياه المعدنية العذبة، التي تجري من قمم الجبال. وفي مناطق متفرقة بالمدينة هناك أماكن مجانية مخصصة للأهالي للسقايا وتعبئة المياه.
وفي المساء وحتي الساعات الأولى من الصباح، تزدحم المدينة برواد المطاعم والمقاهي، التي تقدم أشهى أنواع الطعام البلغاري، المصحوب دوما بـ “الزبادي” المميز، الذي يفتخر البلغار بتصنيعه على طريقتهم الخاصة، وفي المقابل توجد المطاعم التركية ومحلات الـ”تيك أوي” بأطباقها الشهيرة من الكباب والشاورما.