فريد الأطرش.. ” زمان يا حبّ”
كتب: أيمن حامد
“كان في الخامسة عشرة من عمره، يعمل عازفًا على العود في فرقة المطرب إبراهيم حمودة، الذي دعته الأسرة المالكة للغناء في حفلة ساهرة، رحبت الأميرة بحمودة، لكن ما إن وقع نظرها على فريد الأطرش وهو يحمل عوده، حتى صاحت “يا باى. الواد الشامي ده دمه تقيل..خليه يطلع بره..مش قادرة أشوفه”. ارتبك إبراهيم حمودة ولم يدر ماذا يفعل، هل يطرده ويوصم بالجبن أم يرفض فيتعرض للعقاب. وقبل أن يقرر كان فريد قد خرج فعلا من القصر”.
مسيرة من الألم والحب واليأس والحزن والنجاح والإبداع عاشها الفتى فريد “19 أكتوبر 1910-26 ديسمبر 1974″، لكن فصول الألم في حياته كانت أطول أو كان يخيل إليه أنها كذلك. حتى في أبهج لحظات النجاح لم ينس فريد آلامه وطفولته البائسة وهو سليل الملوك والأمراء، عاش حتى اليوم الأخير من حياته شاعرًا بالاضطهاد، وموقنًا أن آياٍد خافية تحاربه في الوسط الفني. لم يكن يرغب حتى في نسيان شظف العيش في صالة بديعة مصابني حينما بدأ العمل عازفًا في فرقتها ليعيل أمه وأخته أسمهان. كانت الراقصة الكبيرة التي كانت يومها صاحبة نفوذ كبير في الأوساط الراقية تعامله بالقطعة، فإذا صفق الجمهور له في ليلة كانت تدعوه للعشاء على مائدتها وتلاطفه، وإذا لم يصفق له السكارى في ليلة أخرى أشاحت عنه بوجهها. كم كان ذلك قاسيًا على الأمير الدرزي العاشق للفن. لكن ذلك كله لا يقارن بمأساة رحيل شقيقته. كان الموت المبكر لأسمهان “1912-1944” الفجيعة التي غيرت مجرى حياته إلى الأبد، وطبعت صوته بصبغة الحزن والألم، الذي لم يغادره حتى في أحلى لحظات حياته.
كانت أسمهان عالم فريد الأثير، فلم يخرج للفضاء والنور من صالة مصابني المعتمة إلا مع تلحينه لأغنية “ليالي الأنس في فيينا”، التي غنتها الشقيقة في فيلم “غرام وانتقام” مع يوسف وهبي. كانت أسمهان لونًا صوتيًا وغنائيًا متميزا، ساعدت فريد بصوتها على نشر إبداعه والاحتفاء بألحانه. لكن رحيلها المفاجئ قصم ظهره وكانت الخسارة مضاعفة، عاطفية لفقده الأخت، وفنية لخسارته شريك وثنائي ناجح.
فرض موت أسمهان على الفتى، المولود في بلدة “القريا” في جيل الدروز، حياة أشبه بالمقامرة، وعشق بعدها المقامرة. صاحبه ذاك الإحساس المر بالفقد، بأن الحياة صدمته مبكرًا. أصبح يخشى من نفسه، ويخاف من الوحدة. عشق الليل والسهر وتمنى أن تتحول الحياة كلها لليل طويل، محاطًا دوما بأصدقائه، ومجلسه المخصص للفرفشة والأنس والسرور والتسلية ثم قليل من الغناء. افتقد فريد الأسرة فعاش وحيدًا، وهكذا كان اسمه في معظم أفلامه “وحيد”. لم يؤمن كثيرا بمؤسسة الزواج، ولم يثق كثيرًا في المرأة كان يحب أن يحيى “اليوم بيومه” بلا قيود كان يظنها ويخشاها في الزواج.
أحب فريد الفنانة سميرة احمد بعد أن وقفت أمامه في فيلم “شاطئ الحب”، أسرته شخصيتها الجذابة ورقتها. شعر أنه أمام امرأة تختلف عن كل النساء اللواتي عرفهن في حياته. دعاها لمجلسه الساهر وعلمها لعبة “الكومي”. ويضحك من قلبه عندما تسأله وبراءة الأطفال في عينها: أديله بصلة يا فريد؟ تقصد باصرة. صارحها بحبه لها وبادلته حبًا بحب. لكن سميرة الصغيرة تعي أن الحب يعني الزواج ولا شيء أخر، فيما لم يؤمن فريد بذلك أبدًا. وغابت سميرة عن حفلاته. أرسل لها هدية عندما كان في بيروت، سيارة “سبور” وملابس وعطورا لكن سميرة رفضتها. غضب فريد منها. ردت عليه بوضوح أنه لا شيء غير الزواج. قرر فريد العودة إلى القاهرة ليتحدث معها وربما يتزوجها. وكان موعد العودة صباح يوم 5 يونيو عام 1967. اتصل به عبد الوهاب وهو يحزم حقائبه ليخبره أن الحرب نشبت وأن المطارات أغلقت، لتنتهي المغامرة الوحيدة الجادة التي كانت من الممكن أن تجعل منه زوجًا للمرة الأولى.
البرنس فريد كان إنسانًا بسيطًا ومتواضعًا، لكن العطاء عنده كان بلا حدود للآخرين. لم يكن يحسبها أبدا! مارس الحياة بكرم حاتمي مذهل يليق بأمير. في يوم كانت الفرقة الماسية تحيي بعض الحفلات في دبي، وفي طريق عودة أعضاء الفرقة، وكان عددهم حوالي 30 موسيقيًا، من دبي إلى القاهرة. توقفت بهم الطائرة في بيروت، على أن يستقّلوا طائرة أخرى من بيروت إلى القاهرة، لكن الفرقة اكتشفت أن أول طائرة الى القاهرة ستغادر بيروت في صبيحة اليوم التالي. واحتار الموسيقيون إذ لم تكن لديهم أموال تكفي لحجز ليلة في فنادق بيروت لقضاء الليلة. وتجمع أعضاء الفرقة في فندق “بريستول” يتشاورن، وإذ يراهم فريد صدفة أثناء خروجه، وبمجرد أن علم بالمشكلة أصر على أن ينزل الجميع في الفندق على نفقته الخاصة، بل ودعا أعضاء الفرقة الى مأدبة ضخمة تكفي مائة فرد في مطعم “اليلدزلار” الشهير.
ويلتقي فريد “المقامر” وبصحبته الممثلة الأمريكية ريثا هيوارث بصديقه الموسيقار محمد عبد الوهاب في باريس، ويقرر فريد دعوة عبد الوهاب لمشاهدة سباق الخيل الذي كان مولعًا به. ويطلب من عبد الوهاب أن يرشح له رقما ليلعب عليه في السباق، والذي اعتذر لعدم خبرته في الموضوع، لكن فريد أصر، واختار عبد الوهاب رقم 7 لأنه كان يتفاءل به. ويلعب فريد ويكسب أربعة آلاف جنيها مرة واحدة، ويصر على اقتسامها مع عبد الوهاب، وحاول الأخير مرارًا أن يرفض، لأنه اعتبر الأمر كله مجرد مزحة، لكن فريد لم يهدأ إلا بعد أن اقتسم عبد الوهاب المبلغ معه.
مساهمة فريد في الغناء العربي امتدت إلى جبهة واسعة جدا، شملت كل الألوان الغنائية، من الأغنية القصيرة إلى الطويلة، إلى الاستعراضية، إلى الشعبية، إلى الأوبريت. فالأغنية الطويلة عند فريد كثيرة ومتنوعة وخالدة مثل أغنية “الربيع” وأغنية “بنادي عليك”و”حبيب العمر”. هذه الأغاني الطويلة التي تمتد لأكثر من نصف ساعة، وربما كانت تصل في الحفلات إلى حوالي ساعة ونصف الساعة، ولم يكن بمستطاع أن يتحملها المستمعون إلا من صوت قادر له مسافة رائعة ومقدرة هائلة على الأداء. كان فريد بخلفيته التلحينية الكبيرة قادر على إعادة الجملة بإضافات جيدة وجميلة وممتعة، ولا عجب أذن أن استمر يغني أغنية “الربيع” طيلة 25 عامًا على المسرح، فيما لم يمكن استقبال الجماهير له في كل مرة يغنيها إلا تعبيرا عن إيمانهم بهذه الموهبة الفذة.
الأمير القادم من قصور الجبل تمرغ إلى حد الدهشة في عوالم الأغنية الشعبية المصرية كأنه قادم من حواري السيدة زينب، إذ ساهم بعشرات الأغنيات التي تميزت بالإيقاع الشعبي الراقص، والبساطة في التلحين، ومن ينسى الفاتنة هند رستم وهي تتمايل راقصة على أنغام “يا مقبل يوم وليلة” في فيلم “انت حبيبي”، حينما جلس “الأمير” فريد مع الفلاحين في عربة قطار ليغني للفلاحة المصرية “وديني للزينة الفلاحة مشتاق وقاتلني الشوق”. ومن لم يتغن يوما بأغانيه الخفيفة “ما قالي وقلتله” و” نورا يا نورا” و”قلبي ومفتاحه” أو”يا ابو ضحكة جنان” حين لم تكن هناك أحلى ولا أجمل من ضحكة فاتن حمامة، وكان فعلا.. زمان يا حب.
الأغنية الحديثة كانت حاضرة أيضا عند فريد، إذ خرج بها إلى آفاق أخرى غير اللون العربي، لكنه لم يحد عن الأصالة في الإحساس بها، نقل بمهارة بعضا من ألوان الغناء الغربي كالتانجو إلى موسيقانا العربية على نحو ما أبدع في “يا زهرة في خيالي” و”أنا واللي بحبه”.
مكث فريد في بيروت معظم أيامه الأخيرة فيما وهن قلبه المثقل بالجراح والمولع بالسهر. لم يعد إلى مصر منذ نشوب الحرب. كان الخروج الأخير منها صعبًا، إذ أراد أن يغادر مصر إلى بيروت لزيارة أمه المريضة وقتئذ، ومنها إلى لندن لمراجعة حالته الصحية عند طبيبه، فظل شهرا يحاول الحصول على تأشيرة خروج دون جدوى، إلى أن توسط الشاعر كامل الشناوي، وتحدث إلى الأستاذ هيكل، لينقل الشكوى إلى الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أمر بمنحه تأشيرة الخروج في الحال. وفي بيروت صدمه موت صديقه الأثير عبد السلام النابلسي في 1968، لكن قلبه هو لم يعد يحتمل أكثر من ذلك. سافر إلى لندن للعلاج في ديسمبر عام 1974. قال له طبيبه أن نصف القلب الذي يعيش به أصبح ربعًا الأن، ناصحا إياه بالعودة. كان واثقًا من موته، خصوصا بعد أن فقد أثناء تصوير فيلم “نغم في حياتي” المصحف، الذي أهدته إياه الراقصة سامية جمال قبل 25 عاما في ذروة حبها له. قالت له يومها” أحفظه يا فريد ..لأنه يقيك من كل الشرور”. عاد إلى بيروت إلى مستشفى الحايك بسن الفيل، الغرفة 202، بعدها بيومين في 26 ديسمبر توقف قلبه عن النبض. كانت ولادته في عيد الأضحى ومات أيضا في صبيحة عيد الأضحى من عام 1974. وإلى بيت الطائفة الدرزية انتقل الجثمان ثم إلى القاهرة حسب وصيته. لم يختر أشياء كثيرة في حياته، لكنه هذه المرة حرص على أن يدفن بجوار أسمهان التي رحلت عنه مبكرًا، فيما كان في أمس الحاجة للاستئناس بها قليلًا.